( الفصل الأول) النقابات نشأتها و دورها في المجتمع
بصدد تاريخ نشوؤها
بدأت مقدمات نشوء الطبقة العاملة تتكون في أحشاء المجتمع الإقطاعي ، مع ظهور الباكورات الأولى لأسلوب الإنتاج الرأسمالي في القارة الأوروبية و القرنين الرابع-الخامس عشر . غير أن العمال الأجراء كانوا ، حتى حلول القرن السادس عشر ، يشكلون جزءا ضئيلا من السكان . لقد كان تطور نظام العمل المأجور مرتبطا بعملية التراكم الأولي للرأسمال التي إنتشرت بادئ الأمر في إنجلترا (إبتداءا من نهاية القرن الخامس عشر و في أوائل القرن السادس عشر ) و من ثم في بلدان أخرى . و يكمن اساس هذه العملية في إنتزاع الأراضي قسرا من الفلاحين و نشوء سوق للأيدي العاملة الحرة لأجل المانيفاتورة الرأسمالية الآخذة في التطور . و من بين أوساط الفلاحين المنزوعي الأرض و الحرفيين أخذت تتكون بروليتاريا مانيفاتورية . بيد أن العمال المانيفاتوريين لم يكونوا بعد في أكثريتهم بروليتاريين بالمعنى الدقيق للكلمة ، إذ أنهم كانوا يملكون بعض أدوات الإنتاج و يوجدون في علاقات بطريكية ، إلى حد معين ، مع أرباب العمل . في هذه المرحلة من تطور المجتمع » يكون العمال عبارة عن جماهير مبعثرة في البلاد تفتتها المزاحمة » *1.
و مع ظهور العلاقات الرأسمالية بدأ نضال العمال ضد الإستغلال الرأسمالي ، الذي لم يظهر إبان الفترة المانيفاتورية إلا في أعمال معدودة ، في التمردات العفوية و الإضرابات المنفردة .
في هذه الفترة بالذات نشأت النقابات بمثابة مدافعة عن العمال في نضالهم من أجل رفع المستوى المعيشي و تحسين ظروف العمل .
لقد كان إنشاء الإتحادات المهنية ( النقابات) » … تقدما هائلا للطبقة العاملة في مستهل تطور الرأسمالية ، باعتباره إنتقالا من تشتت و عجز العمال إلى باكورة إتحادهم الطبقي » *2.
إن البروليتاريا ، التي أجبرتها على خوض النضال ظروف وجودها نفسها ، ظلت زمنا طويلا لا تعي مصالحها الطبقية و تعارضها مع مصالح البورجوازية . و كان العمال ، في سعيهم إلى تغيير الظروف الإجتماعية ، يصبون جام على الآلات إذ كانوا يرون فيها مصدر مصائبهم .
هكذا كانت ، بالأخص ، حركة اللوديين المشاركين في الإنتفاضات الشعبية العفوية في إنجلترا في النصف الثاني من القرن الثامن و أوائل القرن التاسع عشر ، هذه الحركة التي إتسمت ، بفعل تخلف الوعي الطبقي للبروليتاريا في ذلك الحين ، بطابع تمرد على الآلات . فردا على إستغلال الرأسماليين القاسي جدا للعمال كان العاملون يحطمون الآلات . غير أن الحياة كانت تقنع العمال بأن القضية لا تكمن في الآلات بل ذلك النظام الإجتماعي الذي يجرى فيه إستخدام هذه الآلات لزيادة ثروات أرباب العمل . و محل التمرد على الآلات أخذت تحل النضالات ضد الرأسماليين في مؤسسات إنتاجية متفرقة . ومع ذلك فلم يكن العمال يرون بعد في الرأسماليين أعداء طبقيين لهم ، و كانوا يناضلون ضدهم كمجرد نضالهم ضد أشخاص اشرار منفردين . و بصورة تدريجية فقط ، و مع تطور الرأسمالية ، و إبان النضال الطبقي ، أخذت البروليتاريا تتعرف على أعدائها الفعليين و تعي مصالحها الطبقية و تعارضها مع مصالح الطبقة السائدة .
في القرن التاسع عشر أخذت تتنشط نضالات البروليتاريا ضد البورجوازية في أوروبا . ففي عام 1831 حدثت في فرنسا ، في مدينة ليون ، إنتفاضة عمالية . و قمعت القوات الحكومية هذه الإنتفاضة بوحشية . و في عام 1834 غدت ليون من جديد مركزا للإنتفاضة . لقد برهنت هاتان الإنتفاضتان في ليون على الإمكانات الثورية للبروليتاريا . وفي إنجلترا ، في هذا البلد الأكثر تطورا في ذلك الحين و الذي كان يعاني أكثر من غيره من أزمات إعادة الإنتاج ، تحول نضال البروليتاريا الإنجليزية ضد البورجوازية ، كما اشار لينين ، إلى » أول حركة ثورية بروليتارية واسعة ، جماهيرية فعلا و متبلورة سياسيا ، هي الشارتية … » *3 .
كانت ألمانيا في القرن التاسع عشر تتخلف من الناحية الإقتصادية عن البلدان المتقدمة في أوروبا ، و تقف على عتبة الثورة البورجوازية . و عند أواسط ذلك القرن تغير الوضع في هذا البلد ، و أصبحت البروليتاريا تشكل قوة سياسية جدية كانت البورجوازية مضطرة لأخذها في الحسبان . و في عام 1844 إندلعت في سيليزيا إنتفاضة عمال النسيج التي كانت موجهة ضد أرباب العمل المحليين . و إشتركت في قمع الإنتفاضة قوات عسكرية ضخمة . و تم سحق المنتفضين. إلا أنه كانت للإنتفاضة أهمية سياسية كبرى. فقد بينت أنه ولجت النضال الثوري المكشوف ضد الإستغلاليين قوة جديدة هي الطبقة العاملة المتنامية . إذن ، عند أربعينيات القرن التاسع عشر بلغت الحركة العمالية في جميع البلدان المتطورة بأوروبا مستوى معينا من التطور و إكتنزت بعض الخبرة .
لقد كانت وحدة المصالح توحد العمال بصورة موضوعية في نضالهم . و الإستغلال الذي لا يعرف الشفقة كان يجعل ذلك أمرا لا مناص منه . و في ذلك الوقت كانت ظروف معيشة العمال قاسية جدا . فقد كان متوسط أجور العمال في أربعينيات-ستينات القرن التاسع عشر أوطأ مما كان عليه قبل مائة عام . و كان يوم العمل يستغرق 13- 16 ساعة. و لم يكن أرباب العمل يبدون الإهتمام بخلق ظروف عمل طبيعية في الإنتاج . و لم تكن ثمة إجازات مدفوعة الاجر ولا راحة إلزامية مرة في الاسبوع. و كان الشغيلة مضطرين لشراء السلع في دكاكين المصانع بأسعار أعلى و نوعية واطئة .
و لم يكن العمال يتمتعون بحق تأسيس منظمات خاصة بهم و القيام بإضرابات . فالإضراب و الإمتناع عن العمل كانا ن كقاعدة ، يعتبران جريمة جنائية و ضررا يلحق برب العمل و يعوض عنه على حساب العمال . و عقود العمل الجماعية مع أرباب العمل كانت ظاهرة نادرة .
إن وضع الطبقة العاملة هذا دفع إلى ضرورة التوحد في منظمات مستقلة تدافع من أجل مصالح العمال. و المنظمات الأولى للبروليتاريا نشأت في إنجلترا في أواخر القرن الثامن عشر عندما بدأ في البلاد الإنتقال من الإنتاج الحرفي المانيفاتوري إلى الإنتاج الآلي . و قد أسهم في هذه العملية الإفلاس الجماعي للفلاحين الإنجليز .
كانت المنظمات العمالية في إنجلترا في بادئ الأمر عبارة عن إتحادات بدائية لأجل تأمين المساعدة المتبادلة . و لكن نفس واقع تكوين أمثال هذه المنظمات العمالية ، التي كانت تدعى آنذاك إئتلافات ، إتسم بأهمية ضخمة لأنه كان يقنع العمال بصورة بينة بإمكانية و ضرورة العمل بصورة مشتركة . و صار العمال يشكلون إتحادات مؤقتة سرية بهدف تنظيم الإضرابات كانت تتداعى بعد إجراء الإضراب. إلا أن الحياة بينت للعمال أن الإتحادات المؤقتة لا تستطيع حل المشاكل الرئيسية و أنه تلزم منظمات دائمة كدرع متين في النضال ضد البورجوازية .
في عام 1824 إتخذ في إنجلترا قانون يسمح بإتحاد العمال في جمعيات ، وعلى إثر ذلك تلقت عملية تكوين النقابات زخما جديدا . و كان هدفها الرئيسي الدفاع عن مصالح العمال الإقتصادية . و قد اكدت الممارسة أن بإمكان العمال ، فقط بالنضال المنظم و الموحد ، إحراز تنازلات لدى الرأسمال . لقد كانت النقابات بمثابة مدرسة للنضال الإقتصادي ، مدرسة لوعي المصالح الطبقية للبروليتاريا . و أخذت المنظمات النقابية تطرح ، أكثر فأكثر ن لا مطالب إقتصادية فحسب بل سياسية أيضا .
و كانت البرجوازية تبدي مقاومة شرسة بوجه نمو نفوذ و قوة النقابات ، محاولة بذلك عرقلة توحد العمال ووضع النقابات تحت إشرافها .
و قد جرى التأكيد في « بيان الحزب الشيوعي » – الوثيقة البرنماجية لأول تنظيم شيوعي عالمي (عام 1848 ) ، على أن إنتظام البروليتاريين في طبقة يحكمه بصورة مستمرة تزاحم العمال فيما بينهم ، و كانت البورجوازية تبذل الجهد لتقوية هذا التزاحم ، ولاسيما عن طريق تشكيل مجموعات إمتيازية من العمال ووضعها في مقابل العمال الآخرين . و في خمسينات-سبعينات القرن التاسع عشر كانت النقابات ، و بالأخص في إنجلترا ، تضم فقط العمال الاكثر كفاءة و تبنى حسب أقسام المؤسسات الإنتاجية . لقد كانت عبارة عن منظمات مغلقة ، طوائفية ، لم يكن بإمكان العمال الضعيفي الكفاءة الدخول إليها . و كان ذلك يساعد على تفريق العمال ، و يعرقل تنظيم النضال الإضرابي بنطاقات واسعة . و كان الهدف الأساسي لهذه النقابات تحسين العلاقات بين العمل و الرأسمال ضمن إطار الرأسمالية. و كان أمرا مميزا لها عدم تخطي حدود أقسام معينة ، و سياسة التصالح الطبقي بين البروليتاريا و البورجوازية .
نتيجة لنهوض الحركة العمالية في إنجلترا في أواخر ثمانينات القرن التاسع عشر أخذت تتشكل نقابات جديدة تضم ، أساسا ، عمالا غير كفوئين . و كانت النقابات الجديدة تعمل على تنشيط النضال الإضرابي و تناضل في سبيل تطبيق قانون العمل ، ولا سيما ، في سبيل يوم عمل من 8 ساعات .
و راح يشتد ساعد الحركة النقابية و تحظى بإنتشار متزايد الإتساع . و في أول أيار (مايو) 1886 إنطلقت في جميع أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية موجة من الإضرابات و المظاهرات ، بينما تحول الإضراب في شيكاغو إلى إضراب عام تقريبا . و كان العمال ، المعانون من أفضع إستغلال ، يطالبون بتحسين ظروف العمل و بتطبيق يوم عمل من 8 ساعات . و في شيكاغو نكلت الشرطة تنكيلا وحشيا بالمشاركين في المظاهرة الجماهيرية . و أحيل عدد من العمال على المحاكمة و أعدموا ، و حكم على الكثيرين بالسجن مددا طويلة . إن أحداث أيار في الولايات المتحدة بينت لشغيلة العالم بأسره ضرورة التلاحم الكفاحي لبروليتاريا جميع البلدان لأجل النضال ضد الرأسمالية . و منذ ذلك الزمن بات أول أيار يوما لعرض القوى الثورية للبروليتاريا العالمية .
عند تسعينات القرن التاسع عشر أخذ يلاحظ نمو عاصف لعدد أعضاء النقابات. فبينما كان عدد أعضائها في السبعينات بضع مئات الآلاف من الأشخاص فقد إرتفع عددهم في عام 1897 إلى 3.0 ملايين شخص. وكان خطوة هامة نحو تلاحم البروليتاريا إنشاء مراكز نقابية وطنية في كل من ألمانيا و النمسا و المجر و السويد و فرنسا و إيطاليا .
إن النهوض العارم للحركة النقابية و توجهها الطبقي أتاحا ربط الحركة العمالية بالنظرية العلمية للإشتراكية . و قد برهن مؤسسا الماركسية كارل ماركس و فريدريك إنجلس ، و فيما بعد فلاديمير إيليتش لينين ، على أن الإنتاج المادي يشكل أساس العملية الإنتاجية ، و أن هذا الإنتاج يتطور وفق قوانين لا تتوقف على إرادة الناس و إدراكهم . لقد أتاح التناول المادي لتاريخ البشرية إمكانية إعتبار هذا التاريخ بمثابة عملية لتطور المجتمع خاضعة لقوانين و سائرة إلى الامام .
و بينت النظرية الماركسية أن المجتمع يجتاز بصورة متعاقبة ، أثناء تطوره ، درجات معينة من التطور هي النظام المشاعي البدائي ، ونظام العبودية ، و الإقطاعية ،و الرأسمالية . و الدرجة العليا لتطور المجتمع هي الشيوعية . أن طابع هذه العملية الخاضع لقوانين يعني أن الإنتقال إلى المجتمع الشيوعي هو حتمية تاريخية و الوسيلة الوحيدة للحسم الفعلي للتناقضات الملازمة لأسلوب الإنتاج الرأسمالي . وهذا الإنتقال ممكن فقط بنتيجة النضال الطبقي الذي تخوضه الطبقة العاملة ضد البورجوازية .
لقد كشف ماركس و إنجلس المحتوى الإقتصادي لأسلوب الإنتاج الرأسمالي ، و بينا فيم يكمن جوهر إستغلال الطبقة العاملة و أية تحولات تلزم في الميدان الإقتصادي لأجل تحرير البروليتاريين – و سوية معهم كافة الشغيلة- من نير الرأسمال .
لقد بات نضال البروليتاريا الثوري يفهم على أنه مطلب حتمي لقوانين التطور الإقتصادي و الإجتماعي . أما القوة الإجتماعية الفعلية ، القادرة على التحويل الثوري للمجتمع ، فقد أولدتها الرأسمالية نفسها . غنها البروليتاريا ، أي طبقة العمال الأجراء المحرومين من ملكية وسائل الإنتاج و المضطرين لبيع قوة عملهم من أجل البقاء على قيد الحياة .
في مرحلة الإمبريالية تفاقمت جميع تناقضات الرأسمالية . و مما زاد في تعقد مهمة توحد الطبقة العاملة في العالم بأسره أن تعداد العمال في العالم بأسره عند عام 1914 إرتفع إلى 70 مليون شخص . و لكن كان 20 % فقط من العمال منتظمين في نقابات .
في هذه المرحلة برز إنشقاق في الحركة العمالية مرده إلى نمو الارستقراطية العمالية التي باتت موصلا للنفوذ البورجوازي . و بمقدار إزدياد عدد المنظمات البروليتارية الجماهيرية كان الرأسماليون يلجأون إلى شتى أساليب و أشكال شراء ذمم قادتها . و في الوقت نفسه أخذت البورجوازية تستخدم تكتيك تشكيل و مساندة تلك المنظمات المهنية التي كانت ن بهدف تشتيت صفوف العمال ، تنهج سياسة مفيدة للإحتكارات ، و تحصر أهداف الحركة العمالية فقط بالنضال من أجل وضع شروط أكثر ملائمة لبيع قوة العمل .
في عدد من البلدان الغربية ، أمثال إنجلترا و فرنسا و المانيا ، و في الولايات المتحدة الأمريكية كذلك ، إنبثقت النقابات قبل ظهور الأحزاب السياسية للطبقة العاملة . لذلك فقد تعرضت لتأثير النزعة الإصلاحية ، أي أنها كانت تنفي طريق التحولات الثورية ، و تنادي بالتعاون بين الطبقات ، وتسعى عن طريق الإصلاحات لتحويل الرأسمالية إلى إلى مجتمع للعدالة الإجتماعية .
و في روسيا إنبثقت النقابات بعد تأسيس الحزب الماركسي للطبقة العاملة ، وسارت عملية تكوينها تحت قيادته مباشرة . إن نقابات روسيا لم تكن تقف خارج السياسة . و كانت ، بخوضها النضال الإقتصادي ، تسعى لحل المسائل السياسية أيضا . و كان زعيم البروليتاريا الثورية لينين يقف ضد حياد النقابات و عدم تدخلها في السياسة . وقد أشار لينين في مقالة » حياد النقابات » (عام 1908 ) ، بقوله : » لقد إعترف حزبنا كله الآن ، بالتالي ، بأن العمل في النقابات يجب خوضه لا بروح حياد النقابات ، بل بروح تقريبها ، بصورة أشد وثوقا ما أمكن ، من الحزب الإشتراكي-الديمقراطي »*4 ، الحزب الثوري للبروليتاريا في روسيا . و أكد لينين على أن تكتيك النقابات ينحصر في الجمع بين مختلف أساليب النضال ، و في الإنتقال البارع من أسلوب إلى آخر ، و في الرفع المتواصل لوعي الجماهير و نطاق أعمالها المشتركة التي يكون كل عمل منها بمفرده تارة هجوميا و تارة دفاعيا .
و بفضل الدفاع المثابر و الدائب عن مصالح الطبقة العاملة إستطاع الحزب الثوري الماركسي في روسيا ، الذي كان وثيق الإرتباط بالحركة العمالية و أدخل إليها الوعي الإشتراكي ، أن ينال سمعة حسنة في أوساط النقابات . و كان الحزب يرسل خيرة ممثليه للعمل في الجماهير و في النقابات . و كانت الشعارات التي يطلقها قريبة لتطلعات الشغيلة . من ذلك مثلا أن الحزب الثوري الماركسي كان في سنوات الحرب العالمية الأولى ( 1914 – 1918 ) يطالب بوقف الحرب الإمبريالية الدموية ، الأمر الذي كان يتجاوب مع مصالح الطبقة العاملة و الفلاحين الكادحين و جميع الفئات الديمقراطية في روسيا . و عند خريف 1917 ، أي عند لحظة إنتصار ثورة أكتوبر الإشتراكية العظمى ، كان الحزب يقود وراءه عمليا جميع النقابات الأساسية للعمال الصناعيين في روسيا . و شاركت النقابات بصورة مباشرة في الثورة . فقد كانت اللجان الثورية العسكرية في بتروغراد و موسكو و غيرهما من المدن الكبرى تضم ممثلين عن النقابات . و قامت النقابات بأشياء كثيرة في تسليح العمال و تشكيل و تدريب فصائل الحرس الأحمر في المعامل و المصانع. و أثناء إنتفاضة أكتوبر أمنت نقابات بتروغراد ، تلبية لدعوة الجزب ، العمل دون إنقطاع للمخابز ، و المحطة الكهربائية ، و مواسير إسالة المياه ، و محطات الهاتف .
النظرية الثورية للبروليتاريا
لقد بين ماركس و إنجلس في » بيان الحزب الشيوعي » ( 1848) ، الوثيقة البرنماجية الأولى للشيوعيين ، أن الصراع الطبقي ملازم لطبيعة المجتمع الإستغلالي ، وأن الثورة الإجتماعية هي شكل عام خاضع لقوانين للإنتقال من مجتمع قديم ألى مجتمع جديد . و أكد » البيان » على أن » الخطوة الأولى في الثورة العمالية هي تحول البروليتاريا إلى طبقة سائدة ، هي إكتساب الديمقراطية » *5 . و أكد مؤسسا الماركسية غير مرة على ضرورة التلاحم التنظيمي و التربية السياسية للجماهير الكادحة. و طرحا فكرة لم شمل الفصائل المبعثرة للطبقة العاملة في مختلف البلدان في جمعية عالمية واحدة .
و تم تحقيق هذه الفكرة في إنشاء رابطة العمال العالمية عام 1824 التي دخلت التاريخ تحت تسمية الأممية الأولى. و كان هدف هذا الإتحاد يكمن في إنشاء حزب سياسي جماهيري للبروليتاريا و تربية العمال على أساس النظرية الثورية الماركسية . و بظهور مؤلف ماركس الرئيسي » رأس المال » صار للطبقة العاملة أساس علمي لنشاطها حقا. فقد إكتشف ماركس قوانين تطور المجتمع و نشوء و تطور الرأسمالية ، و بين أن التطور الإجتماعي يقود بصورة لا رجعة فيها إلى إستبدال التشكيلة الرأسمالية اللاحق بالتشكيلة الشيوعية . و برهن ماركس على أن تناقض الرأسمالية الأساسي هو التناقض بين الطابع الإجتماعي للإنتاج و الشكل الملكي الخاص للإستئثار بثماره . و على هذا النحو تتكون تناقضات بين الإنتاج و الإستهلاك ، بين التنظيم المنهاجي للإنتاج في مؤسسات إنتاجية متفرقة و فوضى الإنتاج في المجتمع كله . إن ذلك كله يتجلى في الأزمات الإقتصادية التي تتكرر بصورة دورية ، و يؤدي إلى البطالة و تردي حالة الطبقة العاملة .
كانت كمونة باريس أول ثورة بروليتارية في العالم . و لعب العمال دورا رائدا في الثورة ، و كان كثيرون منهم أعضاء في الأممية الأولى . لقد حطمت كومونة باريس آلة الدولة البورجوازية ( ألغت الجيش الدائم و الشرطة ، إلخ ) و أقامت دولة من طراز جديد تمثل أول شكل في التاريخ لدكتاتورية البروليتاريا . دامت كمونة باريس 72 يوما . و في 28 ايار (مايو) 1871 كسرتها الثورة المضادة . و رغم أن الثورة أغرقت في الدماء فإن تجربتها بينت أن البروليتاريا فقط تستطيع أن تترأس العملية الثورية و أن تغدو قائدة لجميع الجماهير الكادحة . و بينت تجربة كمونة باريس أنه تلزم لأجل إنتصار الثورة منظمة للطليعة السياسية للبروليتاريا في هيئة حزب ماركسي سياسي .
و غياب الحزب المتلاحم كان واحدا من الأسباب الرئيسية لهزيمة الطبقة العاملة. بالإضافة إلى أنه لم يجر تنظيم تحالف البروليتاريا مع الجماهير الفلاحية . إن التجربة الثورية للكمونة قد أقنعت أن البروليتاريا بالذات تستطيع ، برئاسة الحزب الثوري ، القيام بإنقلاب إجتماعي حقيقي في المجتمع و قمع مقاومة الأعداء الطبقيين .
عند تخوم القرنين التاسع عشر و العشرين أسدى لينين مساهمة كبيرة في تطوير النظرية الثورية للبروليتاريا . ففي مؤلفه » الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية » ، الصادر عام 1916 ، قدم لينين تحليلا إقتصاديا و سياسيا إجتماعيا مسهبا للإمبريالية بوصفها المرحلة الأخيرة لتطور الرأسمالية . لقد أقامت الإمبريالية سيادة الإحتكارات و الطغمة المالية ، و فاقمت التناقضات بين الدول الرأسمالية ، و الإحتكارات ومجموعات الدول الإمبريالية في صراعها من أجل أسواق التصريف و مصادر الخامات و ميادين توظيف الرساميل ، و إنتهى إقتسام مناطق العالم ، و بدأت الحروب الإمبريالية من أجل إعادة تقسيمه .
و بما أن الإمبريالية وجدت نفسها عاجزة عن حل مجمل هذه العقدة الحادة جدا من التناقضات فقد إستخلص لينين الإستنتاج الصحيح الوحيد القائل بأن الإمبريالية هي عشية الثورة الإشتراكية . و سير الأحداث اللاحق أكد كليا صحة إستنتاجات لينين . و في معرض تحليل الحالة الثورية أشار لينين إلى أن نجاح الثورة يمكن تأمينه فقط عندما لا يكون بمقدور جميع فئات السكان العيش بالطريقة القديمة . و كتب : » لا يكفي من أجل الثورة أن تدرك الجماهير المستغلة و المضطهدة عدم إمكانية العيش على الطريقة القديمة و أن تطالب بتغييرها . إن من الضروري لأجل الثورة أن يغدو الإستغلاليون غير قادرين على العيش و الحكم بالطريقة القديمة . إن الثورة لا يمكن أن تنتصر إلا عندما تعزف الطبقات » الطبقات الدنيا » عن القديم ، و عندما تعجز « الطبقات العليا » عن السير وفق الطريقة القديمة » *6 .
رست نظرية الثورة البروليتارية في أساس كل نشاط الأحزاب الشيوعية المتعلق برص صفوف الطبقة العاملة و التحضير للثورة البروليتارية . و قد دشنت ثورة اكتوبر عهدا جديدا من تاريخ البشرية .
و قد بينت التجربة أن سماتها الأساسية سوف تتكرر بصورة لا مفر منها في العملية الثورية العالمية . و من بين هذه السمات : إزالة السلطة السياسية للبرجوازية ، و إنتقال السلطة بصورة ثورية إلى أيدي البروليتاريا ، و القضاء على الملكية الخاصة لأدوات و وسائل الإنتاج ، تأمين أوثق تحالف بين الطبقة العاملة و الجماهير الكادحة العريضة في المدينة و الريف في ظل الدور القيادي للبروليتاريا ، وجود طليعة الطبقة العاملة – الحزب الماركسي الينيني الثوري ، إعادة بناء الإقتصاد الوطني على أسس إشتراكية ، القضاء على الإضطهاد و الإجحاف القوميين . إن الثورة لا تستطيع أن تنتصر إلا إذا كان يقف في طليعة الطبقة العاملة حزب يستلهم بنظرية الإشتراكية العلمية و إذا كان يعتمد في نشاطه على الجماهير الكادحة العريضة .
لقد أشار لينين غير مرة إلى الفوارق بين حزب الشيوعيين السياسي و بين المنظمة اللاحزبية الجماهيرية للطبقة العاملة – النقابات ، التي ينتظم في إطارها أناس العمل المأجور الذين يدينون بمعتقدات سياسية و قومية و دينية مختلفة . إلا أن الشيوعيين يعتبرون أن توحد جميع العمال على أساس النضال في سبيل مصالحهم الطبقية أمر لا بد منه .
في الأعوام 1919- 1921 أخذ الزعماء الرجعيون للنقابات الإصلاحية يطردون الشيوعيين و العمال الثوريين بالجملة من النقابات . و نشأت ضرورة إنشاء إتحاد نقابي عالمي تقدمي . و في عام 1921 تم إنشاء الأممية النقابية التي لعبت دورا كبيرا في تكتيل شغيلة مختلف البلدان لمساندة الثورة البروليتارية الأولى في العالم عام 1917 في روسيا . و قد بقيت هذه الأممية قائمة حتى عام 1938 .
كانت الأممية النقابية تضم نقابات الإتحاء السوفييتي ، و المراكز النقابية الثورية المحلية في كل من بلجيكا ، وهولندا ، و أندونيسيا ، و كندا ، و الصين ، و كولمبيا ، و تشيكسلوفاكيا ، و شيلي ، و بلدان أخرى . و كان هدف الأممية النقابية التوصل إلى وحدة الحركة النقابية العالمية في النضال من أجل رفع مستوى معيشة الكادحين ، و في سبيل الديمقراطية العمالية في النقابات ، و من أجل تحالف العمال الشيوعيين و الإشتراكيين-الديمقراطيين و اللاحزبيين ضد هجوم الرأسمال .
إن الأممية النقابية التي نشأت كنتيجة لأعمال بحث مديدة عن أشكال توحيد الحركة النقابية الثورية ، قد فعلت الشيء الكثير لرص صفوف الطبقة العاملة العالمية في نضالها ضد زيادة تكثيف العمل و من أجل إقرار يوم عمل من 8 ساعات ، و زيادة الأجور و تحسين ظروف العمل ، و تلبية المطالب السياسية للعمال .
و شكلت الأوساط الرجعية مركزا نقابيا عالميا خاصا بها هو أممية أمستردام للنقابات ( 1919- 1940) . و قد سخر نشاط هذه المنظمة لخدمة البرجوازية الإمبريالية . و لم تتكلل بالنجاح النداءات المتكررة التي وجهتها الأممية النقابية إلى زعماء أممية أمستردام للنقابات و إقترحت عليهم فيها إقامة وحدة العمل بصدد أهم مسائل نضال الطبقة العاملة ضد الرأسمال.
*1 ماركس و إنجلس . » بيان الحزب الشيوعي »
*2 » مرض » اليسارية » الطفولي في الشيوعية »
*3 لينين » الأممية الثالثة و مكانها في التاريخ »
*4 لينين « حياد النقابات »
*5 ماركس و إنجلس » بيان الحزب الشيوعي »
* 6 » مرض » اليسارية » الطفولي في الشيوعية »
المصدر : ما هي النقابات ؟
أوتكين
مبادئ المعارف الإجتماعية السياسية . دار التقدم موسكو 1979
الكتابة الرقمية Prolitari.tn